أحببت في هذا المقال أن أتحدث عن صورة قمت بـ«صنعها» مؤخرا بمناسبة شهر التوعية (فبراير) بمرض تلف الشبكية الصباغي (Retinitis Pigmentosa)، والذي أعاني منه شخصيا. تحدثت من قبل على هذه المدونة عن بعض الصور في السابق وكيفية التقاطها وكذلك عن هذا الحدث التوعوي (لمرة واحدة على الأقل). ولأني لم أنشر مقالة على هذه المدونة لبعض الوقت، أخترت أن أتحدث عن هذه الصورة وإن لم يكن هذا هو الديدن على هذه المقالة، فغالبا ما أركز على المقالات التقنية وأحيانا الفنية، ولا أتحدث عن خطوات التقاط الصور من هذا النوع إلا ما نَدُر.
ذكرت في المقدمة أنني «صنعت» الصورة وهو تعبير حرفي حيث أن الصورة موضع الحديث ليست صورة واحدة في الحقيقة ولكنها مكونة من عدة صور تم دمجها معا. ولهذا يمكن القول أنها «صُنعت» ولم «تُلتقط». ولنتدرج في الحديث لنرى كيف بدأت الفكرة.
الفكرة
لم تكن الفكرة متوفرة منذ البداية، والحقيقة أني كنت غافلا عن تتبع التاريخ حتى أني لم أتنبه لدخول شهر فبراير إلا بعد انقضاء ما يقارب الأسبوع منه. مرت الأيام دون إلهام يُذكر أو بال يُخطر فلم أنفّذ ولم أحاول القيام بأي شيء ولو على سبيل التجربة. لتنشيط التفكير والمساعدة على استجلاب الإلهام، قمت ببعض عمليات «العصف الذهني» على أحد المواقع والتي يتم فيها توليد كلمة أو صورة عشوائية في محاولة لاستنباط فكرة ما من هذه العشوائية، إلا أن محاولاتي باءت بالفشل حتى في هذه.
وأخيرا تولدت الفكرة (أو بداياتها) في أحد الأيام حينما كانت العائلة تستعد لعمل حفلة شواء صغيرة في الخارج، وقد بدأت الفكرة أولا من تصوير الفناء من الأعلى (بالمحمول) من الشرفة. كان هناك كيسا من الفحم وقد بدأت تتوالى الصور في مخيلتي: فحم ← أسود ← عتمة ← ظلام؛ فكان الأمر كأنه إشارة. فالظلام وهذا المرض توأم لا ينفصل. وقادتني البديهة إلى تخيل عين تنظر خلال هذا الظلام باحثة عن أمل ما يؤدي إلى النور. وهكذا تولدت الفكرة الأولية لهذه الصورة وجاء الآن وقت العمل (والذي تأخر أيضا لبعض الوقت لعدة أسباب).
كانت الفكرة الأولية هو تصوير عين ناظرة خلال السواد والعتمة، وقد كانت الفكرة الأولية تحتم التقاط الصورة بحذافيرها؛ أي صورة حقيقية تتركب من عين (عيني) ناظرة خلال العتمة، والتي سيلعب دوره الفحم هنا – كل هذا في لقطة واحدة حقيقية غير مركبة. ولكن تسير الرياح بما لا تشتهي السفن، كما سنرى.
العمل
كما ذكرت آنفا، فإن الفكرة كانت لالتقاط صورة حقيقية بكل عناصرها، العين، والفحم. لذلك فقد قمت بتجهيز لوح شفاف من الأكريليك وحاولت جاهدا تكسير بعض قطع الفحم عليه وبعثرتها بشكل دائري تقريبا. لكن بدأت تظهر المشاكل رويدا، فلا أدوات مناسبة لهذا العمل ولا مكان مناسب للعمل سوى في الخارج، ولم اهتدي إلى طريق لتثبيت الفحم على اللوح، حتى أنني فكرت بالتقاط الصورة بشكل أفقي (أي أن يكون اللوح مستويا بشكل أفقي ومن فوقه الفحم والتمدد من تحته للنظر من خلال الفحم). لكن الكلام عن هذه الطريقة أسهل من العمل بها. بالإضافة إلى كل هذه الفوضى الفكرية، أضاف موضوع الإضاءة بعدا آخرا للمشاكل حيث أن الفكرة الاولية كانت استخدام الومّاض جانبيا لتبيان قوام الفحم، ولفعل هذا يجب التحكم بالومّاض لاسلكيا، وتباعا يتوجب العمل مساءً بُعيد غروب الشمس لأن الشمس تشوش على إرسال الأشعة تحت الحمراء من الكاميرا إلى الومّاضات (فأنا استخدم الأنظمة القديمة والومّاضات القديمة التي تعمل لاسلكيا بالأشعة تحت الحمراء لا بالإرسال الموجي أو الراديوي) ولن تعمل الومّاضات في وضح النهار. وزاد الطين بلة عندما هطلت الأمطار بين الفينة والفينة لما يقارب الثلاثة أيام. دفعني جمع الظروف هذا إلى الاستسلام للأمر الواقع والعمل بسرعة وعدم تضييع المزيد من الوقت، وهكذا آثرت العمل على تجميع الصور بدلا من تصوير الكل في صورة واحدة. ولكن عليّ أولا تحديد نوع الإضاءة مسبقا حيث يجب مراعاة نوع واتجاه الإضاءة لجميع عناصر الصورة عند التقاط كل منها على حدة.
فيما يتعلق بنوع الإضاءة فقد آثرت هنا العمل السريع (نوعا ما) بعكس ما كنت قد خططت له في البداية. لذا، قد اخترت معدلا للضوء لم استخدمه كثيرا في السابق، ويسمى (Roundflash) – وربما كان هذا اسم المنتج أو الشركة المنتجة. النكتة هنا هي أن هذا المنتج كنت قد ابتعته منذ سنوات مضت كأحد الحلول الرخيصة لتطويع إضاءة الومّاض العادي للتصوير المجهري، ولكنه كان غير صالحا لذاك العمل بتاتا، وهو الآن موجود في بعض المواقع المتخصصة في بيع أدوات التصوير تحت مسمى «مُبَعْثِر» أو «ناشر» (Diffuser) للضوء دون ذكر التصوير المجهري؛ يبدو أن المصنعين قد أيقنوا عدم صلاحه لذاك النوع من الأعمال. على أية حال، لاستخدام هذا النوع من النواشر، فإن الومّاض يجب أن يكون متصلا بالكاميرا مباشرة (كما هو واضح في الصورة) حيث تمر العدسة في منتصف الناشر، وهكذا تكون الإضاءة العامة عند التصوير ذات مجال دائري ومبعثرَة للنعومة. بيد أن التصوير سيكون فوق لوح الأكريليك بزاوية 90 درجة تقريبا وهكذا كنت أعوّل على مهارات التحرير الرقمي لتبيان وإيضاح بعض معالم سطح الفحم. للاحتياط، قمت بالتقاط ما يقارب 8 صور للوح الأكريليك مع الفحم مع بعض التغييرات الطفيفة بين صورة وأخرى، وقد كان الهدف الأولي هو اختيار صورة واحدة من هذا الجمع، ولكن كالعادة، تغير هذا الأمر لاحقا كما سنرى في مرحلة تحرير وتعديل الصور.
كان ذلك فيما يتعلق بتصوير الفحم أو عنصر الظلمة في الصورة، فكان بعد ذلك وقت التقاط صورة العين. وكما ذكرت آنفا، يجب أن يتم التقاط الصورة بنفس مصدر الضوء واتجاهه قدر الإمكان. وعلى عكس الحالة مع صورة لوح الأكريليك المغطى بالفحم، فإن التقاط صورة للعين (عيني) يتطلب تثبيت الكاميرا على الحامل، مع الناشر الحَلَقي. لم يكن الأمر سهلا لأن قطر الناشر وحجمه بشكل عام كانا يعوقان تثبيت الكاميرا (كانت حافة الناشر تصطدم بأرجل الحامل). بعد معاناة بسيطة، قمت بتثبيت الكاميرا بشكل مقبول إلى حد ما، وانتقلتُ إلى التحدي اللاحق، وهو التقاط الصورة.
لم
تكن تلك هي المرة الأولى لالتقاط صورة
شخصية لوجهي أو لعيني ولكن هذه المرة كان
هناك بعض التحدي لأن العدسة المستخدمة
هي عدسة 50مم
(وهي
التي استخدمتها آنفا لالتقاط صور لوح
الأكريليك المتعددة).
اخترت
هذه العدسة بالذات لأنها تحاكي تقريبا
النظر البشري ولا تُظهر أي تشوهات تقريبا
(ولهذا
تسمى أحيانا بالعدسة الطبيعية Normal
Lens). إحدى
معوقات هذه العدسة في تصوير مواضيع من هذا
النوع هي مسافة التركيز الدنيا (والمساوية
لـ 40سم)
وعليه
فإن العين ومحيطها سيدخلان في الصورة،
وهو ما لم أريده لأن ذلك سيكون على حساب
التفاصيل الدقيقة للعين ذاتها.
وهكذا،
قررت استخدام بعض الأنابيب المُفرَغة
والتي تستخدم لكسر حاجز أدنى مسافة للتركيز
(وللتصوير
المجهري إلى حد ما).
ولم
يكن من السهل ضبط منطقة التركيز وتحريك
العين في مجال العدسة ولذا فقد قررت
الاستعانة بأخي ليرشدني وليلتقط الصورة
(شاكرا
له).
عند
هذا الحد تجمعت العناصر، ويجب الآن العمل
على تركيبها.
التحرير
في هذا المقام لن أتطرق إلى التفاصيل ولكن سأتعرّض للحديث عن الإجراءات التي قمت بها في بشكل عام، فهذه المقالة أولا وأخيرا ليست من باب الدرس ولكن للحديث عن قصة صورة. لذا، لن أخوض بتفاصيل تحرير الصور ولكن سأحاول الإيجاز قدر المستطاع. وللإيجاز، فمن الأفضل توضيح الأمور بنقاط:
1- قمت أولا باستعراض صور الفحم وعملت على تحريرها وتعديلها بذات المقادير (عن طريق خيار المواءمة).
سرد لجمع الصور الملتقطة للفحم. ولربما كان من الأفضل استخدام الورق المقوى الأبيض بدلا من الأكريليك في هذا العمل ولكن لم أكن أعلم مسبقا إلامَ ستؤول إليه الأمور!
2-
قمت
بتكديس جميع هذه الصور فوق بعضها البعض
ودمجها كـ «موضوع/جسم
ذكي
»
(Smart Object) وتغيير
نمط التكديس – وسآتي على شرح سبب هذه
الخطوة لاحقا.مجموعة الطبقات المستعملة
في هذا العمل (أنقر للتكبير)
3- لصق صورة العين (بعد تعديلها بالمقدار المناسب) مع البقية.
أما باقي خطوات العمل فلا يسع المقام لذكرها فهي كثيرة، ونلاحظ أن لون الفحم قد أزداد خضرة بدل السواد وكنت قد نويت قلب اللون إلى الأسود فعلا ولكن بسبب درجات اللون الأحمر في العين فقد يكون من الأنسب البقاء على هذا اللون الأخضر لاتزان الألوان، ولكن قمت بتقليل تشبعه.
أما السبب في الخطوة الثانية، فقد كانت الفكرة هي تبني صورة واحدة للعمل فقط، ولكن عند رؤية الصور جميعها ظننت أنه من الأفضل دمجها لصنع صورة واحدة مع تغيير التكديس إلى «معدل» أو «وسيط»، وبهذه الطريقة يمكن زيادة نسيج الفحم (نظريا) وزيادة العشوائية في المنظر الخارجي لهذه الطبقة.
الصورة النهائية: Despite The Darkness (رغم الظلام) |
الخاتمة
بهذا المختصر انتهت قصة صنع صورة «رغم الظلام» والتي أعبّر (أو آمل أن أعبّر) فيها عن ذاك البصيص من الأمل مع هذا المرض وتعقيدات الحياة الأخرى. لم أشأ الإطالة هنا في الحديث عن التعديلات وأساليب التحرير فهذه المقالة ليست تقنية أو لتعليم تقنية ما في برنامج الفوتوشوب، لكنما مجرد سرد لقصة صورة وكيفية صنعها. قد لا ينظر البعض إلى هذا العمل كونه صورة بل كـ «تصميم» - فليكن. ومع الأسف، فإن هناك بعض الأشخاص (ومنهم مصورون) الذين يقللون من مقدار العمل الفني لكونه «تصميما» وليس متكونا من صورة واحدة حقيقية، بل إن بعضهم قد يذهب إلى التقليل من شأن بعض الصور لمجرد تحريرها وتعديلها بأي طريقة كانت في برنامج الفوتوشوب واعتبارها أنها ليست صورة حقيقية والصورة الحقيقية يجب صنعها بالكاميرا وقت التقاط الصورة. ويبدو أن تلك المجموعة من البشر قد نسوا أو تناسوا بأن التعديل والتحرير كان موجودا قِبَلا في عالم الأفلام وغرف التحميض المظلمة وليس بالشيء الجديد؛ فكل ما فعله برنامج الفوتوشوب هو التخلي عن المواد الكيميائية الخطرة في تلك العمليات واستبدالها ببعض مساطر التغيير بكل رقمي، لا أكثر ولا أقل. أرجو إن كان القارئ العزيز من تلك المجموعة من الناس أن يغير نظرته للفن وإتاحة المجال للتفكير في التعبير الفني بدلا من التزمّت بأمور لا تقدم ولا تؤخر، لا سيما عند التعبير عن شيء ما بالفن.
كما رأينا في هذه المقالة، فقد كانت الفكرة فعليا هي التقاط صورة واحدة ولكن الظروف والوقت المحدود للعمل دفعت إلى العمل على تركيب وصنع الصورة بدلا من التقاطها في صورة واحدة، ولم أكن لأدع الفكرة تذهب سدى لا سيما لأمر اعتبره شخصيا. لذا، فأنا أحث عزيزي القارئ على صنع الصورة وتركيبها إذا ما ضاقت به السبل ولم تتوفر الأدوات اللازمة أو الظروف للعمل؛ فالفكرة وانتاجها أهم مما قد يعتقده البعض بشأن أصالة الصورة. هذا، وحتى نلتقي في مقالة جديدة إن شاء الله…