الأحد، 10 أغسطس 2014

المشاهد المستعرضة (Panorama)…

هذه المقالة تحتوي على عرض لواقع افتراضي مما يتطلب تخزين برنامج الكويك-تايم. قد لا يمكن مشاهدة الواقع الافتراضي على الأجهزة المحمولة المعتمدة على أنظمة الأندرويد والآيفون. يرجى إتاحة بعض الوقت لتظهر الصور والواقع الافتراضي في هذه المقالة.

أعود إليكم بعد توقف لما يقارب الأسبوعين أو أكثر وذلك بسبب ضيق الوقت (والجهد) أثناء شهر رمضان المبارك. علاوة على ذلك، فإنني كنت أفكر بالمواضيع التي يمكنني التحدث عنها في المستقبل القريب. لهذا السبب قد يقل تواتر المقالات مستقبلا.
قررت في هذه المقالة أن أتحدث عن المشاهد المستعرضة (Panorama)، وهي من أساليب التصوير التي أستمتع بأدائها دوما، مع توفر المكان المناسب بالطبع. بالنسبة إلى التعريب فإن التعريب من تأليفي الخاص حيث لم أجد مصطلحا خاصا لهذا النوع من التصوير، والغالب هو أن تنقل الكلمة كما هي: بانوراما.
لغويا، تأتي كلمة «بانوراما» مؤلفة من اللغتين اليونانية واللاتينية، حيث يأتي الشطر «بان» بمعنى «مجموع» أو «شامل»، ويأتي الشطر «أوراما» بمعنى «منظر» أو «مشهد». فيكون المعنى المجمل هو «منظر شامل». استعمل هذا المصطلح لأول مرة على ما يبدو في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، حين قام بعض الرسامين برسم مشاهد من المدن وحياة المدن بشكل مستعرض ناهز أحيانا زاوية مقدارها 180 درجة، ولم يكن الناس في ذلك الوقت قد ألفوا فنا من هذا النوع. على أية حال، يأتي تعريبي هنا مبنيا على حقيقة أن هذا النوع من التصوير هو طريقة لزيادة مجال الرؤية لدى الكاميرا، والعين البشرية كذلك، عن طريق دمج صورتين أو أكثر. لهذا النوع من التصوير خصائص ومميزات وأنواع مختلفة سوف أحاول التدرج فيها بقدر المستطاع هنا. لكن هذا المجال واسع جدا حتى أنني يمكنني القول بأنني لا زلت أتعلم من هذه التقنية في التصوير بالرغم من مزاولتي لها لما يقارب الخمس سنوات حتى هذه اللحظة.

لماذا؟

قد يتساءل البعض لماذا يتم التصوير بهذه الطريقة؟ مع العلم بأن العدسات ذوات الزوايا الواسعة (متضمنة عدسات عين السمكة) قد تؤدي الغرض، خصوصا بالنظر إلى الجهد المضني المطلوب للعمل في هذا النوع من التصوير. الحقيقة هي أن هناك أسباب، أولها أسباب فنية. توفر هذه الطريقة في التصوير أبعادا خاصة بها (سنأتي على ذكرها لاحقا) ومنظورات لا يمكن للعدسات الواسعة أن توفرها. ثانيا، يعتبر هذا السلك من التصوير وسيلة جيدة للتوثيق، لا سيما إذا ارتبط العمل بعد ذلك بتكوين «واقع افتراضي» أو ما يسمى باللغة الانجليزية (QuickTime Virtual Reality, QTVR)؛ وهي تقنية تسمح للمشاهد بالغور في أعماق المكان المُصوّر من خلال شاشة الحاسوب. تتطلب هذه التقنية تخزين برنامج الكويك-تايم (QuickTime) في العادة مع توفر بعض البدائل، لكن هذا البرنامج (والذي يخزن ملفات خاصة لتشغيل الواقع الافتراضي في المتصفحات مثل الفايرفوكس «FireFox » والاكسبلورر «Explorer») هو أنسبها وهو الأكثر شيوعا وكذلك مجاني. تأتي تقنية الواقع الافتراضي كأداة مناسبة في الصناعات المتعلقة بالسياحة وكذلك في الأغراض العلمية البحتة. السبب الثالث هو سبب خارج عن نطاق معرفتي ولكن قراءتي عن هذا النوع من التصوير عرّفتني إلى إمكانية استخدام هذه التقنية (مع تقنية النطاق العالي HDR) لصنع بيئات مناسبة في عالم التصميم الصّوَري (Graphic Design) والتصميمات الثلاثية الأبعاد. من هذه النظرة المبسطة إلى مزايا هذه التقنية يتضح لنا بأن الأمر ليس فنا وحسب، بل يتعداه إلى كونه ضرورة أحيانا، والنتائج بعد استخدام هذه التقنية تكون بلا شك البلسم المداوي لكل هذه المشاق لالتقاط مشهد مستعرض واحد.

أنواع ولغط

في عالم التصوير تختلف المصطلحات بعض الشيء عن تلك التي يستخدمها الرسامون أحيانا، بمعنى أن يكون المصطلح ذا مدلول مختلف عما هو عليه في عالم الرسم. من هذه المصطلحات هو مصطلح البانوراما نفسه. كما أسلفنا الذكر، فإن هذا المصطلح انبثق للتعبير عن المشاهد الشاملة أو المستعرضة التي بدأ الرسامون في رسمها في القرون الماضية. هذا الموروث انتقل إلى عالم التصوير، فنرى بعض المصورين الذين يطلقون هذا المسمى على أي صورة تكون نسبة العرض إلى الطول فيها أكبر من النسبة العادية للصور الأحادية؛ لهذا نرى البعض قد يصور صورة ما بعدسة واسعة (عين سمكة مثلا) وثم يتم قطع الحواشي العلوية والسفلية لكي تصبح نسبة العرض إلى الطول أكبر، ويُطلق على هذه الصورة «بانوراما». في الحقيقة، ومن باب تثبيت التعريف لمصطلح البانوراما أو المشاهد المستعرضة، لا يجب إطلاق مسمى بانوراما على هذا النوع من الصور.
في هذه المقالة (وفي جُل الكتب المتعلقة بالموضوع) يتم إطلاق لفظة بانوراما أو المشاهد المستعرضة على أي صورتين أو أكثر لنفس المشهد ولكن بزاوية مختلفة بين صورة وأخرى ومن ثم دمج هذه الصور لتكوين صورة واحدة للمشهد المطلوب. لهذا السبب، قد يكون المشهد المتكون من دمج بضع صور مع بعضها البعض في بعض الأحيان ذو مسافة زاويّة صغيرة نسبيا، بل أصغر من زاوية الرؤية الطبيعية للإنسان، ولكن مع ذلك يتم تسمية هذه الصورة بالمشهد المستعرض أو البانوراما لكونها قد تألفت من أكثر من صورة قد تم دمجها. على هذا الأساس التقني البحت، تم تقسيم المشاهد المستعرضة تبعا لطريقة التقاط المشهد:
1. مشهد مستعرض (بسيط): وهو ما يتم دمجه من التقاط بضعة صور، ولكن لا يمثل سوى مقطع ما من البيئة التي تم التقاط الصورة فيها، ويشمل هذا بالطبع المشاهد المستعرضة للمواضيع المحددة كذلك. هذا، وقد ذكرنا في مقالات سابقة أن عدسات الإزاحة تستخدم لالتقاط صورتين ودمجهما لاحقا للحفاظ على توازي الخطوط العمودية.

2. ثلاثمائة وستون: وهي المشاهد المستعرضة الأفقية التي تتم عن طريق التصوير في ضمن دائرة كاملة، أي التقاط الصور للبيئة المحيطة بمجال رؤية يساوي 360 درجة.
3. المشهد المستعرض الكامل: ويسمى هذا النوع بالكروي كذلك (spherical) وذلك لتشابهه مع مبدأ إسقاط إحداثيات الكرة على سطح مستوٍ (كما في الخرائط). هذا النوع من المشاهد المستعرضة هو المعني بتصوير البيئة من جميع الزوايا الممكنة من نقطة معينة، مما يعني التقاط الصور على مدى 360 درجة أفقيا، و180 درجة عموديا. ويُمكّن هذا النوع من المشاهد من التحكم بالمنظور والإسقاطات بشكل كبير بجانب الاستخدامات الأخرى كما سبق وذكرنا آنفا. وسنأتي على ذكر هذه الإسقاطات لاحقا.

العمل

يعتبر العمل مع أدوات التصوير في هذا المجال أمرا متعبا أحيانا، ومكلفا. هذا لعدة أسباب تتعلق بطبيعة هذا المجال، حيث يحتاج تصوير المشاهد المستعرضة (الغير بسيطة) لبعض الاحتياطات والترتيبات، وهذا لا يتوفر إلا باستخدام بعض العناصر والأدوات الثقيلة نسبيا. لكن قبل الولوج في أمور التقنيات والأدوات، من الأفضل تفسير بعض الظواهر التي من أجلها تحتم الأمر باستخدام بعض هذه الأدوات الثقيلة.
لو كان عزيزي القارئ من الذين جربوا العمل في دمج الصور (في برنامج الفوتوشوب مثلا) فلربما قد واجه البعض بعض المشاكل عند بعض النقاط في الصور المدمجة، وتتمثل بخطوط غير متلائمة مثلا (أو متقطعة) وتشوهات بشكل عام. يرجع هذا الأمر في المقام الأول إلى ظاهرة تدعى بالـ «تزيّح» (Parallax). هذه الظاهرة مفيدة علميا في مجال الفلك وغيره من العلوم وكذلك في مجال صنع الصور الإزاحية الثلاثية الأبعاد (Anaglyph)، والمسمى هنا من تعريبي الخاص. هذه الظاهرة، وللأسف، هي سبب المشاكل التي تظهر عند دمج الصور مع بعضها البعض لتكوين مشهد مستعرض.
بإمكان عزيزي القارئ القيام بتجربة بسيطة هنا لتخيل الأمر. مد ذراعك أمامك رافعا الإبهام إلى الأعلى، على مستوى النظر. والآن أنظر بالعين اليمنى فقط إلى الإبهام والخلفية وراء الإبهام، ثم أغمض هذه العين وافتح الأخرى. سترى بأن الخلفية كأنما قد «أزيحت» قليلا، وتكون هذه الإزاحة أكثر لو كان الإبهام أقرب. هذا بالضبط ما يحدث مع الكاميرا والعدسة، وبالتالي تتوالى المشاكل لدى الحاسوب في محاولة منه للتوفيق بين عناصر الصور المختلفة والتي يبدو وكأنها أزيحت من مكانها. وهكذا يكون الناتج النهائي هو: التشوهات. على أن هذه التشوهات هي في الحقيقة صفة ملازمة لهذا النوع من الأعمال في التصوير ولكن باستخدام الأدوات المطلوبة، يمكن التقليل كثيرا (كثيرا جدا!) من نسبة هذه الأخطاء عند الربط والدمج بين الصور.

صورة مقربة لبعض الأخطاء التي تظهر عند دمج الصور لعمل المشاهد المستعرضة.
هناك العديد من الأسباب التي قد تؤدي هذه التشوهات ولكن أول ما يوضع في الحسبان هو: التزيّح.

من هذا المنطلق كان لزاما أن يتم العمل على تصوير المشهد المستعرض بطريقة توفر ثباتا للمواقع النسبية للمواضيع أمام الكاميرا؛ أي أن المواضيع القريبة والبعيدة عن الكاميرا يجب أن تظل من دون إزاحة ظاهرية فيما بينها عند التفاف الكاميرا (أي تغيير زاوية التصوير). يأتي الحل لهذه المشكلة من علم البصريات. ومن دون الدخول في تعقيدات هذا العلم، فإنه من الممكن تعيين نقطة ما على محور العدسة يكون الالتفاف حولها مقللا أو حتى عادما لهذه الإزاحة الظاهرية. تسمى هذه النقطة بـ «نقطة اللاإزاحة» (No-Parallax Point). موضع هذه النقطة يختلف باختلاف العدسة طبعا، ولكن في النهاية يمكن معاينتها بالتجربة والخطأ عن طريق وضع الكاميرا والعدسة على رأس مخصص للف الكاميرا على محاور مختلفة. يسمى هذا الرأس بـ «رأس الواقع الافتراضي» (Virtual Reality head, VR-Head). يكون الاختبار بوضع أجسام قريبة وبعيدة عن الكاميرا ولف الكاميرا يمنة ويسرة مع تغيير موضع محور الدوران حتى تكون الإزاحة الظاهرية معدومة تقريبا (قد لا يمكن تفادي الإزاحة تماما خصوصا في عدسات عين السمكة، ولكن يمكن تقليلها إلى حد كبير). ونقوم بنفس العمل لضبط الإزاحة الرأسية. كل هذه التعليمات تكون متوفرة طبعا مع الرأس عند شرائه، وهناك أيضا بعض الشركات التي تنتج رأسا خاصا ثابتا لا يمكن تغيير محور دورانه يكون مناسبا لكاميرا معينة مع عدسة معينة، وهذا بالطبع أفضل ولكنه باهظ الثمن (علاوة على أن الأنواع العادية باهظة الثمن في المقام الأول). هناك بعض المواقع التي توفر بعض البيانات بخصوص موضع نقطة اللاإزاحة لمجموعة من تراكيب الكاميرات والعدسات (ولو أن اكتشاف هذه النقطة ممكن عن طريق التجربة والخطأ).
رأس مانفروتو 303SPH، ويزن 1 كجم تقريبا.
المصدر
تتميز رؤوس الواقع الافتراضي غالبا بإمكانية تغيير العديد من الأمور، منها موقع محور الدوران الآنف الذكر، وكذلك مقدار زاوية الالتفاف. هذا المقدار يحدده مجال العدسة (وحجم المستشعر) وبشكل عام يفضل أن يكون هناك بعض التطابق بين الصور الملتقطة بمقدار الثلث؛ أي أن يتواجد ثلث الصورة الأولى في الصورة الثانية وهذا لمساعدة الحاسوب لاحقا في عملية الربط بشكل جيد. وعليه، فيجب تحديد مقدار زاوية الالتفاف على أساس هذا المبدأ. بالطبع، كلما زاد مجال رؤية العدسة كلما زاد مقدار الالتفاف وكلما كان التصوير أسرع لأن عدد الزوايا المطلوبة لإكمال دائرة كاملة يكون أقل. ولكن يجب تذكر أن مجال العدسة كلما كان أكبر، عنى ذلك ظهور المواضيع بشكر أصغر (بالأخص تلك البعيدة عن الكاميرا)، ولهذا فأنا شخصيا لا أفضل العدسات ذوات مجال الرؤية الواسع جدا، لكن الأمر يجب أن يكون متوازنا بين المجال الواسع للرؤية وحجم المواضيع. كما يفضل استخدام العدسات ذوات البعد البؤري الثابت وهذا تفاديا للأخطاء التي من الممكن أن تحدث في العدسات ذوات البعد المتغير، علاوة على أفضلية العدسات الثابتة فيما يتعلق بالنقاوة وحدّة الصورة بشكل عام.

أثناء العمل

يتطلب العمل عند تصوير المشاهد المستعرضة تقليل العوامل المتغيرة قدر المستطاع. ولهذا السبب، لا يجب استخدام أي خاصية آلية في الكاميرا (إلا بحدود المطلوب كما سنرى). يعني هذا بأن تكون العدسة على وضعية الضبط اليدوية لا الآلية وهذا حتى لا يتغير تركيز العدسة مع تغير زاوية الكاميرا، وعدم استخدام خاصية ضبط حساسية المستشعر الآلية، وأيضا يفضل عدم استخدام خاصية ضبط المستوى الأبيض الآلية (AWB). التقاط الصور بحد ذاته من الممكن أن يتم باستخدام أحد النظامين: اليدوي الكامل (M) أو أولوية الفتحة (Av) – أرجو أن يتذكر عزيزي القارئ إنني من مستخدمي كاميرات الكانون وهذه المصطلحات لها ما يقابلها في كاميرات النيكون.
أما في النظام اليدوي الكامل فإنه على المصور العمل على ضبط سرعة الغالق بالمقدار المناسب للتواكب مع مختلف الإضاءات المتواجدة في المكان، هذا مع ضبط فتحة العدسة طبعا ويفضل أن تكون مناسبة لتصوير المساحات (ما بين ب/8 إلى ب/16) – واستخدام مبدأ «التركيز الأمثل» (Hyperfocus) سيكون مناسبا. يتطلب الضبط بهذه الطريقة القيام بعدة عمليات قياس للضوء في الموقع، في أماكن الظل والسواطع مع تحديد طريقة القياس؛ وفي الغالب تكون بالطريقة المركزية أو التقييمية (Center-weight, Evaluative)، ويمكن كذلك قياس الإضاءة باستخدام أجهزة خاصة لقياس الضوء الساقط إلى الكاميرا وما إلى ذلك. تعتبر عملية التصوير في النظام اليدوي مطولة نسبيا ومتعبة بعض الشيء علاوة على استهلاكها للوقت، ولذلك فإن التصوير بنظام أولوية الفتحة أسرع وأفضل نسبيا.
يكون التصوير بنظام أولوية الفتحة بتعيين الفتحة المطلوبة في الكاميرا وتحديد طريقة قياس الضوء (كما سبق) وتتولى الكاميرا بعد ذلك تحديد سرعة الغالق المطلوبة في كل زاوية، ويمكن كذلك تعديل نسبة الإضاءة عن طريق تغيير النسبة في شريط الإضاءة (EV) إذا تطلب الأمر ذلك. يعيب البعض على هذه الطريقة بأنها سوف تخلق تفاوتا كبيرا بين اللقطات خصوصا إذا كانت البيئة تحت التصوير تحتوي على إضاءات شديدة التباين. ولكن مع تقنية النطاق العالي، وأيضا مع بعض الخيارات المتوفرة في برامج الدمج فإن هذا التباين من الممكن تقليله أو تفاديه تماما. هذا، والأمر يعتمد في المقام الأول على طبيعة المكان المراد تصويره – فلكل مكان مشاكله، ولكل مشهد مستعرض مشاكله التقنية الخاصة. يقول الخبراء بأنه لو كان الفرق ما بين السواطع والظلال يفوق الخطوتين فإنه من الصعب تحقيق إضاءة متوازنة بين الاثنين بحيث تظهر التفاصيل بشكل مُرضٍ في كلا المنطقتين. في هذه الحالات يأتي دور تقنية النطاق العالي إذا سمح الأمر بذلك.
بالطبع كل هذه التفاصيل المذكورة أعلاه تخص العمل في المشاهد المستعرضة المعقدة والتي قد تمتد من 180 درجة إلى 360 درجة، وقد تكون في جميع الاتجاهات. أما المشاهد البسيطة التي تتكون من بعض الصور (من 2 إلى 3 مثلا) فإن تعقيد الأمور ليس مطلوبا إلى هذا الحد. ولكن تظل القاعدة كما هي بالنسبة للأمور الآلية حتى في المشاهد البسيطة، من مثل الحساسية والمستوى الأبيض. هناك بعض الاستثناءات والتي لا داعي لشرحها الآن، حيث من الممكن كذلك أن يتم العمل بشكل مطول من خلال استخدام نظام التصوير المطول (Bulb)؛ والحقيقة أن العمل المطول بهذا النظام هو في الحقيقة مغامرة فعلية!

Mare Lunare (البحر القمري)
تم عمل هذا المشهد المستغرق بنظام التعريض المطول (Bulb) بشكل كامل، وقد استغرق العمل ما يناهز الساعتين!
الموقع: السالمية، الكويت.

ما بعد العمل

بعد الانتهاء من تصوير المطلوب، يتم رفع الصور على الحاسوب. ترتيب الملفات هنا بالغ الأهمية بالأخص إذا كان المشهد كبيرا، لأن الترتيب من الأمور التي يستند عليها الحاسوب في عملية الربط بين صورة وأخرى. يفضل التصوير عادة بصيغة السالب الرقمي وذلك لإتاحة المرونة في التعامل مع الصور من حيث التعديلات اللازمة إذا تطلب الأمر ذلك علاوة على أن هذه الصيغة تحتفظ بأكبر قدر ممكن من البيانات المتعلقة بالإضاءة وما إلى ذلك. لن أدخل في التفاصيل المتعلقة بكيفية تعديل الصور وما إلى ذلك، فهذا الأمر متروك للمصور وتفضيلاته الخاصة في هذا المجال. لكن نأتي على ذكر البرامج المختصة بربط الصور.
من أبرز البرامج المعروفة في مجال دمج الصور هو الفوتوشوب، وهو يحتوي على أنواع عدة من الإسقاطات أو المناظير التي يمكن تشكيل المشهد على طريقتها. يمكن الوصول إلى هذا الأمر عن طريق القوائم التالية: File > Automate > Photomerge. يعتبر هذا البرنامج نقطة بداية للمبتدئين وهو يقوم بعمل جيد نسبيا، ولكن له عيوبه التي تجعل المتمرسين في هذا المجال يتجنبونه. أول هذه العيوب هو استهلاكه لذاكرة الحاسوب بشكل كبير (بمجرد التشغيل). وثاني هذه العيوب هو عدم تحكم المستخدم بعملية الدمج بتاتا؛ أي أن العملية، من بدايتها إلى نهايتها تتم من غير تحكم المستخدم في أي شيء، سوى تغذية البرنامج بالصور. وعليه، قد تكون عملية الدمج هنا طويلة جدا، كما أن حجم المشهد سيكون كبيرا بحجم مجموع الصور المدمجة (والحجم الكبير ليس أساسيا بشكل دائم).
لعل أغلب المتمرسين في هذا المجال الآن يستخدمون برنامجا يعرف باسم (PTGui)، وسأعربه للاختصار هنا إلى «بتغوي». هذا البرنامج أو التطبيق لديه تاريخ طويل من التطوير، وقد كان في الأصل مجرد تطبيق رياضي ألفه البروفيسور الألماني هيلموت ديرش (Helmut Dersch). على أية حال، فهذا البرنامج يمتلك الكثير من الخيارات والقدرات (والكثير منها أجهله أنا شخصيا حتى الآن)، مما يتيح للمستخدم التحكم يدويا في كثير من النواحي عند دمج وصنع المشهد المستعرض. وبالمناسبة، فإن عملية دمج الصور لتكوين مشهد مستعرض تسمى أحيانا بالـ «الخياطة» (Stitching) وذلك لتماثلها مع عملية الخياطة في ربط صورتين وأكثر مع بعضهم البعض

واجهة برنامج «بتغوي» المبسطة.
أنقر للتكبير.

 
لا أستطيع الغور في أعماق هذا البرنامج وخصائصه، ولكنني أشجع المستخدم، لو أمكنه الحصول على هذا البرنامج، باللعب قليلا واستكشاف خفاياه. وعلى كل، فهذا البرنامج لديه خاصية الاستخدام البسيط لتقليل عدد الخيارات أمام المستخدم، وهناك خاصية الاستخدام المتقدم والتي توفر الكثير من الخيارات أمام المستخدم المحترف. في هذا البرنامج بالذات يمكن الإبداع أكثر فيما يتعلق بقضية المناظير للمشاهد المستعرضة كونه يوفر للمستخدم الاستخدام الحر، وحرية اختيار زاوية الإسقاط. ويوجد في هذا البرنامج كذلك خاصية تحويل المشهد إلى واقع افتراضي (بعد الدمج).

المناظير

المناظير هنا تعني طريقة النظر إلى المشهد، وتعني كذلك طريقة دمج وخياطة المشهد ككل. تختلف هذه المناظير في طريقة تشكيل المشهد المستعرض، وبعضها يصلح لمشهد ما أكثر من غيره، وبعضها لا يصلح إلا لنوع واحد من المشاهد كما سنرى. يعتمد تشكيل هذه المناظير بشكل أساسي على صف الصور المستخدمة وعلى بعض الخوارزميات الرياضية التي تعمل على تشكيل هذه الصور وتركيبها معا. سننظر هنا إلى بعض المناظير الأساسية.

أ. المستقيم (Rectilinear): وهذا المنظور يناسب المشاهد الصغيرة نسبيا. وكما يدل الاسم، فهو يقوم بالمحافظة قدر المستطاع على تسطح الصورة وعدم انحناء أجزائها. يشابه هذا الإسقاط الكيفية التي تعمل بها العين البشرية.

Gothicum (القوطي)
هذا المشهد المستعرض مؤلف من 3 صور التقطت بشكل عمودي ودمجت بالمنظور المستقيم.
الموقع: كنيسة كاهر، مقاطعة تيبيراري. ايرلندا.

ب. الأسطواني (Cylindrical): وهو المنظور الأكثر تناسبا مع المشاهد الملتقطة بزاوية 360 درجة أفقية (فقط). المجال العمودي أقل من 180 درجة. يحافظ خط الأفق على استقامته في هذا المنظور ولكن الخطوط الأعلى والأسفل منه تكون منحنية، وتكون الخطوط العمودية مستقيمة.

هذا المشهد المستعرض مكون من صف واحد من الصور على مدار دائرة كاملة وتم دمج الصور بالمنظور الأسطواني.
الموقع: المركز العلمي، الكويت.

ج. الكروي (Spherical, Equirectangular): وهو الإسقاط المناسب للمشاهد الكاملة التي تُلتقط بـ 360 درجة أفقية، و180 درجة عمودية. كسابقه الأسطواني، فإن هذا الإسقاط يحافظ على استقامة الأفق والخطوط العمودية، ولكن مجاله العمودي يفوق الإسقاط الأسطواني. يوجد عدة برامج يمكنها تحويل الصور المتشكلة من هذا المنظور إلى واقع افتراضي لسهولة العمل معه (بالخوارزميات).

Out There (هناك)
تم دمج هذا المشهد المستعرض بالمنظور الكروي، مما يساعد على احتواء الزوايا العلوية والسفلية في البيئة.
الموقع: ذا ﭬيكتوريان. ستايتن آيلند، نيويورك.

د. الكوكبي (Little Planet, Stereographic): وكما يدل الاسم، فإن هذا النوع من الإسقاط يشكل المشهد المستعرض (الكامل بالأخص) إلى ما يشبه الكوكب الصغير (Little Planet projection). بالطبع سيكون الشكل مشابها للكوكب تماما لو كان المشهد المستعرض قد تم التقاطه في الخارج، ولكن هذا لا يمنع من استخدام هذا النوع من الإسقاطات للمشاهد الملتقطة في الأماكن المغلقة أو الداخلية.

Planeta Caela (كوكب الغيوم)
مشهد مستعرض من النوع الكامل وتم تغيير المنظور إلى الكوكبي. تساعد الغيوم والجو الخارجي على الإيحاء بطبيعة الكوكب.
الموقع: الخالدية، الكويت.

هـ. المتلاشي: وهو ما يسمى كذلك بـ «ﭬيدوتيسمو» (Vedutismo)، وهي مستمدة من الإيطالية. يعمل هذا المنظور على المحافظة نوعا ما على الخطوط القطرية المتجهة إلى المركز مما يعطي إيحاءا بالعمق وثلاثية الأبعاد بعض الشيء، وهو أمر دأب الرسامون إبان الحقبة الكلاسيكية على تمثيله في رسوماتهم. لا يناسب جميع أنواع المشاهد المستعرضة، بل البسيطة منها فقط، وهذا يعتمد أيضا على طبيعة المشهد المستعرض وبيئته

Lonely Path (الطريق الوحيد)
ساعدت طبيعة المشهد مع تكوين صفوف الأشجار المتجهة إلى الأفق مع استخدام منظور التلاشي على الإيحاء بالعمق في الصورة حيث تلتقي الخطوط (الافتراضية) في مركز الصورة في الأفق.
الموقع: جزيرة فيلكا، الكويت.
 

و. النفقي (Tunnel Vision): وهو غير موجود بحد ذاته، ولهذا فإن التسمية من تعبيري الشخصي هنا. وهو المنظور المعاكس للكوكبي، بحيث يُهيأ للمشاهد بأنه ينظر من نقطة النظير (أسفل القدمين) إلى الأعلى ولهذا فهي تكون بمثابة النفق عند النظر

Skyscope (منظار السماء)
مشهد مستعرض بمنظور النفق.
الموقع: السالمية، الكويت.
 

هذه قد تكون بعض المناظير أو الإسقاطات الرئيسية ولكنها ليست كل شيء، ففي تطبيق الـ «بتغوي» يتمكن المستخدم من تغيير زاوية الرؤية عند تحديد أي من هذه الإسقاطات. بالإضافة إلى هذه الإسقاطات، يوجد أخريات لم يتم ذكرهن، مثل الميركاتور والدائري، وهي من الإسقاطات الثانوية بالمقارنة مع الأخريات

The Dome (القبة)
قمت بالتقاط هذا المشهد المستعرض عند بداياتي في التصوير. يتكون هذا المشهد مما يقارب 22 صورة التقطت بشكل دائري وتم دمج الصور لاحقا في البتغوي بالمنظور الدائري.
الموقع: جامعة الكويت، الكويت.
 

في العمارة

يتفوق هذا النوع من التصوير في مجال التصوير المعماري بالذات لقدرته على توثيق المكان بجانب توفير المناظير الفنية والخيالية للمكان للمُشاهد، هذا بجانب توفير إمكانية الواقع الافتراضي كذلك. تكلمت في مقالة سابقة عن بعض النواحي في التصوير المعماري وبعض النقاط التي يجب الالتفات إليها سواء عند التصوير في الداخل أو الخارج، ولكن الأمر هنا مختلف قليلا.
عند العمل في تصوير المشاهد المستعرضة، على المصور التوقف لحظة والتفكير وسؤال نفسه: هل أنا أقوم بالتوثيق؟ أم أن هناك أسبابا فنية أخرى؟ على أية حال، هذا لا يمنع من أن يكون التوثيق فنيا في مرحلة لاحقة من العمل ولكن أساس الفكرة هنا هو اختيار الموقع المناسب في بيئة العمل قبل البدء. تخيل نفسك تقف في منتصف إحدى الصالات (لتكن صالة من صالات حفلات الزفاف مثلا). لو أنك كنت ستلتقط مشهدا مستعرضا لكل البيئة من حولك عند تلك النقطة، وثم غيرت مكان وقوفك والتقطت مشهدا آخر، فإن الاختلاف سيبدو واضحا جدا. وهذا شيء طبيعي جدا بسبب اختلاف المسافات للمواضيع في البيئة بالنسبة للكاميرا. لهذا، من المناسب جدا، في معظم الحالات، التصوير من منطقة المنتصف في الموقع إذا كان الهدف هو مشهد كامل (360 درجة × 180 درجة). وبالطبع هذه ليست قاعدة ولكن هذه النقطة توفر في العادة الرؤية المناسبة والمتزنة للأشياء. إذا لم يمكن ذلك، فمن الأنسب اختيار نقطة أخرى بعد التمعن (والتخيل) في المواضيع القريبة والبعيدة عن الكاميرا.
هناك بعض النقاط التي يجب وضعها بعين الاعتبار كذلك، عند العمل على مشهد كامل بالذات؛ وهي نقاط السمت والنظير، أي تلك فوق المصور (بزاوية 90 درجة) والتي تكون أسفل المصور (بزاوية 90 درجة). هاتان الزاويتان قد تسببان بعض المشاكل وذلك نظرا لموقعهما النسبي، ولكن النظير أصعبهما. تكمن صعوبة السمت في كون الصورة الملتقطة هنا قد لا تندمج بسلاسة مع باقي الصور (لكونها صورة مفردة من غير صور متاخمة لها)، ولهذا ففي بعض الأحيان يفشل الحاسوب في دمجها، وقد يضطر المستخدم إلى دمجها مفردة في وقت لاحق أو التحايل على هذه المشكلة لاحقا (باستخدام برنامج الفوتوشوب) – وتكمن الصعوبة كذلك إذا كانت صورة السمت لا تحتوي على تفاصيل كثيرة (كأن تكون السماء صافية أو أن يكون السقف بلا تفاصيل مثلا). عموما، لا يتسع المجال لذكر هذه الطرق، ولكل مصور طريقته الخاصة في التعامل مع هذه المشاكل.
أما نقطة النظير فهي الأصعب وذلك لكونها تقع تحت المصور. ولهذا فإن صعوبتها تكمن في عملية التصوير بحد ذاتها. لقد ابتدع بعض المصورين بعض الطرق لتصوير هذه النقطة من خلال استخدام بعض الأدوات المساعدة والمحافظة على ميلان الكاميرا فوق هذه النقطة للتصوير، ولكن الحق يقال، لقد جربت بعض هذه الطرق وأرى أنها مضنية ولا تفيد كثيرا (خصوصا إذا كان التصوير بطريقة النطاق العالي) – لذلك فإنني أبحث عن المكان الخالي من التفاصيل الأرضية قدر المستطاع حتى أستطيع معالجة الأمر لاحقا في برنامج الفوتوشوب. وإذا كان الأمر متعلقا بصنع واقع افتراضي من المشهد، فإنه يمكن وضع علامة معينة (تحتوي على اسم المصور مثلا) في مكان الأرضية عند 90 درجة، وبهذا فإن المُشاهد للواقع الافتراضي سيرى اسم المصور (أو أي معلومات أخرى) عند النظر بزاوية 90 درجة إلى الأسفل في هذا الواقع الافتراضي. وهناك أيضا إمكانية حد النظر، أي عدم تمكين المشاهد من النظر إلى الأسفل بزاوية 90 درجة، وهذا ممكن من خلال بعض الخيارات المتاحة عند صنع الواقع الافتراضي من المشهد الكامل. 

مثال على واقع افتراضي (يتطلب تخزين برنامج الكويك-تايم)
لاحظ أن نقطة النظير تم استبدالها بعلامة.
تكمن مواطن الجمال في تصوير العمارة بطريقة المشهد المستعرض في أمرين متناقضين: التكرار، والفوضى. أما التكرار فيكمن في الأنماط المتكررة والتطريزات مثلا التي تكون في شتى المواقع في البيئة المحيطة، وأما الفوضى فإنها تكون بمثابة مؤثر بصري جيد للإيحاء بمشاعر معينة للمشاهد، بشرط استخدام هذا المبدأ جيدا. بشكل عام، الفوضوية في الصور وعدم تناسق العناصر هي من العناصر الطاردة والمبعدة للمشاهد، على أن الوضع يختلف قليلا في المشاهد المستعرضة الكاملة، حيث أنها قد تفتح آفاقا جديدة لرؤية المواضيع بشكل مختلف. كما تفتح الإسقاطات الهندسية المختلفة عند استخدامها مع وجود التكرار والفوضى في الموقع بصنع مادة خيالية بحتة تفوق المشاهد الاعتيادية بطبيعتها ورونقها، لا سيما منظور النفق والكوكب

Apocalypse (الانهيار)
تم استخدام الفوضى للإيحاء بانهيار العالم وتم استخدام منظور النفق لتعميم هذا التأثير. لو كان هذا المشهد المستعرض في حالة أفقية فإن أغلب هذه الفوضى ستكون في الجزء الأسفل من الصورة وليست منتشرة كما هي هنا.
الموقع: جزيرة فيلكا، الكويت.

 
Planeta Columnium (كوكب الأعمدة)
لاحظ كيف أن تكرار الأعمدة في البيئة ساعد على انتاج أشكال هندسية جذابة من خلال استعمال المناظير المختلفة (الكوكبي في هذا المثال).
الموقع: السالمية، الكويت.

الخاتمة

من الكتب التي ساعدتني في بداياتي، وهو من تأليف هارالد ﭬوسته.
المصدر
أتمنى أن تكون هذه المقالة مفيدة لعزيزي القارئ ومناسبة له بعد انقطاع دام بضع أسابيع. لا أستطيع سرد كل شيء عن هذا المجال من التصوير حيث أن العمل به هو في الحقيقة مسيرة تعلم دائمة، وأرجو أن تكون هذه المقالة البذرة المساعدة لحث القارئ على البحث أكثر وتكوين خياله وعالمه الخاص من خلال المشاهد المستعرضة. طريقة التقاط هذه المشاهد تختلف باختلاف اهتمامات المصورين، وباختلاف المشاكل التي يواجهونها عادة، ولذلك فإن عملية التصوير في هذا المجال تحث وتدفع بالمصور لتكوين نمطه الخاص في عملية التصوير.
لا يمكنني في الوقت الحالي مناقشة أمور البرامج المختلفة، أو بالأخص برنامج الـ «بتغوي» وذلك لعمقه، ولا مفر من أن يجرب المصور نفسه العمل في مختلف هذه البرامج حتى يتعرف على بعض خواصها. كان بودي كذلك أن أتكلم عن أسلوب عملي الخاص في هذا المجال ولكن بعد التفكير اكتشفت بأن هذا الأسلوب عرضة للتغير باختلاف الظروف، وليس بالإمكان سرد جميع التفاصيل الخاصة بهذه الظروف وكيفية التعامل معها. فكما قلت مسبقا، فإن الأمر هو عملية تعلم مستمرة. هذا، وحتى نلتقي في المقالة القادمة إن شاء الله…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق